سامريّة تفتضح إيماننا!!

السامريّة قصّة مألوفة للغاية. انبرت من فرط التأمُّل والوعظ. عُصِرت لتُخْرِج عصير الحكمة الكامنة في لقائها الفريد مع الرب يسوع. هل من جديد؟! لقد رأيتها اليوم من زاوية جديدة. رأيت مرآة كاشفة لإيماننا. رأيت افتضاحًا لإيماننا الجدلي المراوغ المسوِّف أكثر من أي شيء آخر.

السامريّة! من هي؟ ما اسمها؟ لا نعلم أي شيء! كلّ ما نعلمه أنّها امرأة امتلأت بالحماسة والرّغبة في المعرفة والفهم، واندفاع هائل للشهادة. بينما الكثير منّا يرتدي أقنعة سميكة من الدفاعات المستميتة عن مواقفنا إزاء إعلانات الله، وما يكشفه لنا. نستتر بغطاءٍ داكنٍ ونكشف فقط ما يُجَمِّل صورتنا أمام الآخرين. انكشافنا يحفّز مخالبنا الدفاعيّة لكلّ من يقترب! نجرح من يقترب لأنّنا مجروحون من الدخل. جرح ينزف وينزف. نعالجه بالمزيد من المساحات الخاصة التي لا نسمح لأحد أن يقترب منها إلاّ وحشدنا أسنّة الرماح ورمينا به أولئك العابرين! ومن فرط الجرح والنزف، نفقد الطاقة، والرؤية، والأيدي الممدودة. نصارع في الهواء، ونحن نحتضر، نتباطأ ونتباطأ عن الحركة، لا قوة لدينا. نُدفن في أماكننا، ونتحوّل إلى أمثولة وقصّة تحكي عن ماضٍ بدأ مشرقًا، ولم يرغب في أن يشفى بالنور، فاخترقته الظلمة من الداخل وانتزعته من أرض الأحياء!

حينما انكشفت حياة السامريّة أمام رجل يهودي، من معسكر الأعداء، ينتمي للجانب الآخر، ويفصل بينهما بركة دماء من العداوة، لم تتقوقع. لم تتمترس خلف حصونٍ أخلاقيّة زائفة. لم تتجمَّل. لم تهاجم. لم تستدع عداوات الأمّة لتستر موقفها. لم تهل التراب عليه لأنّه ابن أورشليم، العدو اللّدود. أمام إعلانه، صمتت، وقبلت، وانتبهت، وبدأت رحلة المعرفة الجديدة. معرفة لا سياسة فيها ولا قبليّة. معرفة صافية تتجاوز غبار المعارك، والأحقاد. لقد بادرها يسوع بسؤالٍ، وبادلته بسؤالٍ. سؤالها قد يكون هربًا هادئًا من الخوض في تفاصيل العلاقة الآثمة، وقد يكون سؤال تثقّلت به، وأرادت له حسمًا، لتتحرّك للأمام. على أي الأحوال، لم تنه الحوار مع يسوع إثر المواجهة، بل استمرت تحت بؤرة الضوء، وأقرّت بقدرته النبويّة، وبدأ السؤال المؤرق يخرج من أعماقها. حرفة يسوع كانت انتزاع السؤال الصحيح من أسفل، من الطبقات السميكة في القلب. استجابت السامريّة من دون مقاومة.  

كان سؤالها عن العبادة! امرأة تحيا مع رجلٍ من دون زواج في مجتمع شرقي قديم، محكوم بالتوراة والناموس، يشغلها أمر العبادة! قد يرى البعض في الأمر ازدواجيّة، وقد يراه آخرون أنينًا لم يُشْف. لا نعرف قلوب ونيات البشر أبدًا. ما يشغلني هو بساطة حوارها الذي يُخجّلنا. نأتي نحن إلى محضر يسوع مدجّجين بأسلحةٍ من مبرّرات لا حصر لها. نمارس الرثاء على أحوالنا، وندين غيابه! لا نقبل منه مكاشفتنا لأنّنا نخشى الألم ورحلة العلاج. لا نرغب في أن تُرصد خطيئتنا، لذلك، لا نُشفَ. نخرج من اللّقاء والمواجهة، ويسوع، في وجداننا المتألِّم، مُدان بالغياب، وأمّا نحن فأبرياء. لذلك لا نُشف.

نحن نلتقي يسوع كاليهود! نُسائله ليل نهار عن سرّ اقتحامه عالمنا المألوف والمحاط بأسوار الناموس، وخبرات الأتقياء؛ التقوى المألوفة لنا. حينما يحادثنا عن إبراهيم وأنّه كائن من قبل أن يكون، ننزعج، ونعود إلى مربع قناعاتنا الأولى، ونطارده، ونلاحقه، ولا بأس إن كان التفسير الوحيد لدينا أنّه خائنٌ سامريُّ، وأنّ به شيطان. ننفلت من سلطته بتقويضها.

السامرية التقته، بسؤالٍ عن يعقوب. لم تنزعج من إعلانه أنّ لديه قدرة لم تكن ليعقوب. لم تتشكّك، ولم تحاول تصويبه، ولم تتحوّل عنه. لم يكن يعقوب لديها صنمًا لا يقبل الإزاحة. لم تنزعج من تصريح يسوع، بل استمرت في السؤال، وقبلت الإعلان. انشغلت بالعطية، واحتضنت كلماته في قلبٍ بدأ يعرف سرّ الحقيقة في بساطتها الظاهرة.

قبلت السامريّة إعلانه، وأطلقت صرختها أنّ مسيا قال لها كلّ ما فعلته. نحن نطمر أفعالنا ولا نريد حديثًا عنها، أمّا هي فلم تعبأ. الحقيقة أطلقتها من قيودها النفسيّة. أطلقتها حرّة طليقة تخبر بما رأته. في المقابل، قابل نيقوديموس يسوع ليلاً، وجادله؛ سؤالاً تلو الآخر، وخرج سرًّا، وكتم اللّقاء في قلبه، خوفًا. لم يقبل الحقيقة المحرّرة. انتصرت السامريّة، وأخفق نيقوديموس! كلّ ما في لقاءات يسوع يقلب الهرم السلطوي والأخلاقي رأسًا على عقب. الآخرون يصيرون أولين.

السامريّة تخجّلنا إن أردنا أن نلتقي يسوع عن بُعد، من وراء أسوار وحواجز، خوفًا من النور الكاشف لحقيقتنا وجرحنا العميق. صورتنا عن أنفسنا، وصورتنا عن يسوع، تحدّد مساحة اقترابنا أو ابتعادنا عنه. لم تعبأ السامريّة بصورتها، وتجلّت صورة يسوع أمامها، فغلَّبته على أفكارها وقناعاتها، بل ومناطق الخزي والعار التي تعاني منها. سمحت له بالدخول إلى تلك المناطق، ليكشف، ويحرِّر.

كيف لامرأة في مثل حالها أن تتحرّر من هذا الشعور العميق بالخزي، بينما تقبض علينا مشاعر الخزي وتعتصرنا، فلا نقبل أي مساسٍ ببؤر ألمنا الملتهبة وماضينا (وقد يكون حاضرنا) الدامي. إنّ عالمنا المعاصر يدور بنا في معصرة هائلة تروسها من خزي وذنب وتمرُّد. التقت يسوع، وانفتحت، فأخذ بيدها ليعبر بها بركة الخزي العميق، وانفلتت من قوى الانكفاء والتقوقع المريض التي قيدتها. لم تتمرّد، بل خضعت، لم تختبئ في لحظات الشفاء؛ بل طرحت حياتها تحت يدي الطبيب القادر. لم تخش الجموع حينما أعلنت أنّه قال لها كلّ ما فعلت، فالحقيقة أحاطت بها في لحظة خاطفة، دون إدراك أو وعي أو تخطيط أو دراسة، لتعلن ما يجب أن يُعلَن. لم تر، كيوحنا المعمدان، سوى العريس والعروس، واللقاء، والحقيقة، وتراجع خجلها وذاتها وإثمها أمام عظمة اللّحظة.

الراهب سارافيم البرموسي

مقالات أخرى