تزف الموسيقى وريقة هائمة
تحلق من رصيف لرصيف
تسبح في الهواء وتتمايل
كأنها تائهة
لا تجد موضع مريح
مكتوب عليها كلمات باهتة
لا تستطيع قراءتها ما لم تنتبه
أو تدقق
أو تهتم
” إلى خاصته جاء و … ” !
تسقط في يدِ شاب صغير،
يقفز فرحًا على نغمات ايقاع صاخب،
يهتز و يهتز،
وكأنه يريد أن يُسقط من دماغه الأفكار.
يترنح ترنحًا،
بينما تلمح عينيه الكلمات،
فيلعن حظه وهو ينظر لصديقته
ويقول بصوت عالٍ
“كآبة ! فكرتها فلوس ” !
تبتسم صديقته،
وتهز رأسها بالإيجاب.
تتظاهر و كأنها سمعته وسط الضجيج،
لتستكمل كأس بيدها كادت أن تنتهي منه!
يلقي بالورقة على الأرض،
فتأبى السكون،
وتطير بعيدًا،
علّها تجد مستقرًا يشبه راحتها،
تحملها نسمات الشتاء الهامسة،
فتعلو فوق رؤوس الحاضرين،
وتحطّ أخيرًا على إحدى الشرفات،
حيث تجتمع عائلة حول مائدة دافئة،
أحاديثهم تتشابك مع أصوات الأواني،
ويعلو صوتٌ واثق يقول:
“يا بني، دا أول أولوياتي”.
تتحدث الكلمات عن شخصٍ
اجتمعوا باسمه،
وتتضح ملامح الحديث… إنه يسوع!
يضعون له المكانة الأولى،
الأولوية العليا،
أول ما يبدأ به كل شيء.
تأبى الوريقة أن تُكمل الحديث،
فتلتفُّ النسمات حولها مستفسرة: “ما بكِ؟”
تجيبها الوريقة بصمتٍ حائر،
فيصرّح النسيم بحكمة: “أليس هذا الحديث عاقل، والتصريح موضوعي؟”
أليس هذا ما تبتغينه!
أول الأولويات!
وبداية الأحاديث!
هنا و وكأن الوريقة قد وجدت أخيرًا سبيل الراحة،
فتهاوت برفق بين يدي رجل يفيض على مظهره علامات الثراء.
كان يتحرك بروية واتزان،
بصحبته امرأته،
خارجين من الكنيسة،
في خطوات تنبض بالوقار.
اقتربا من سيارة سوداء فارهة،
وحين همّ الرجل بإغلاق الباب،
تسللت الوريقة خلسة بين أصابعه،
لتستقر في يده، وقد أمسك بها بحذر،
قبل أن تطيح بها نسمات الهواء العابثة.
فرَدْها بين يديه، ليقرأ ما كُتب عليها: “حلَّ فينا…”
طواها برفق، ووضعها في جيبه الأقرب إلى قلبه،
وكأنما أرادها أن تنعم بدفء الأمان في أصدق مواضع الراحة.
وما إن أدار مفتاح السيارة، حتى وقعت عيناه على رجل فقير،
جالس على الرصيف بملابس رثة خفيفة،
بالكاد تستر جسده.
يحتمي من برد الشتاء ببطانية رمادية مهلهلة،
تخترقها نسمات البرد كسهام نافذة تخترق حصونًا منهارة.
رقّ قلب الرجل لذلك الفقير،
فالتفت إلى زوجته قائلاً: “ايه رأيك ناخده معانا..”
صُدمت الزوجة من اقتراحه،
وقالت بدهشة: “نروح بيه فين بس !؟”
ابتسم الرجل، متفهمًا اعتراضها،
وألقى نظرة وداع خافتة عبر زجاج السيارة نحو الفقير،
لكنه فوجئ بنظرة مماثلة منه،
نظرة امتنان خالصة وكأنه يقول: “شكرًا.”
تساءل الرجل في داخله: “هو سمعني!؟”
لم يترك تساؤله دون إجابة، فاندفع من السيارة بخطوات تسبق أنفاسه،
اقترب من الفقير وهمس في أذنه: “انتظرني.”
ابتسم الرجل الفقير ورد بهدوء: “منتظرك.”
بعد أقل من ساعة، عادت السيارة السوداء الفارهة،
وتوقف الرجل الثري بالقرب من الفقير.
ترجّل، حاملاً معه بطانية وأكياسًا ممتلئة،
وجلس بجانبه على دكة سوداء، غسلتها الأمطار الغزيرة.
مدّ له بطانية، وأخرج طعامًا ساخنًا قائلاً: “كُل لقمة عشان تدفى.”
ابتسم الفقير ومدّ يده للطعام،
وفي تلك اللحظة، كأنَّ الزمن قد توقّف!
شعر الرجل الثري بصدمةٍ جعلته يتصبب عرقًا رغم برودة الطقس.
تسارعت أنفاسه بجنون،
ودقات قلبه باتت أسرع من وميض برقٍ يشقّ السماء في ليلةٍ عاصفة.
توقف ذهنه عن التفكير،
وتجمدت عيناه محدقةً فيما يرى،
فلم يستطع أن يستوعب ما رآه؛
يدٌ مجروحة،
إنها يده،
يد المخلص،
يد الرب،
أنا أعرف هذا الجرح.
رفع عينيه نحو وجه الفقير،
والتساؤلات والتوقعات تسبق نظراته.
تواجه الوجهان،
فإذا به ينظر وجه الرب،
إنه هو!
بشوشٌ مبتسمٌ،
وديعٌ رقيقٌ،
حتى ثيابه تغيرت إلى زيٍّ ملوكي،
تكاد ألوانه أن تنطق من بهجتها،
وكأن الألوان هي أيضًا اكتست بهاءً من بهائه.
السلام يغمر المكان والقلب،
يخترق الواقع بعمق،
ينتشر في الأرجاء،
يتحول إلى لحنٍ عذبٍ يمتزج بأصوات قطرات المطر،
لحنٍ يتجاوز حدود الموسيقى،
لحنٍ سامٍ ينساب فوق صفحات الهواء،
خلابٍ لدرجة السبي.
لم يعرف الرجل ماذا يقول،
أو ماذا يفعل!
تحجر لسانه،
هربت الكلمات،
وتلاشت المعاني،
تجمدت أطرافه وتسمرت،
وهو يراقب تلك اليدين وهما تربتان على كتفه.
وبالكاد نطق بكلماتٍ بسيطة: “معقولة! أنت وأنا! أنا بحبك أوي”.
نطق الرب بكلماتٍ تخترق المتاريس،
تهز أركان المسكونة،
كشلال مياهٍ متدفقة،
يَسْكُنُ غديرها طيات الكيان،
يملأ خباياه،
ويُطَمْئِنُ جوارحه:
“أنا عارف وأنا بحبك”.
هنا، بدأ المشهد يتبدل
ويختفي الرب من أمام ناظري الرجل،
لكن صوته لا يزال يصدح في الأرجاء،
يأتي من بعيد لكنه قريب،
يخرج من القلب لكنه يتردد في الداخل بعمق،
في أعمق نقطة في الوجود:
“أخبرهم أني أحبهم أيضًا،
أنتم فيّ وأنا فيكم،
أتيت لأجلكم،
وُلدت كإنسان
لابسًا جسدًا لأجتاز بكم معاناتكم،
ولدت كفقير،
ومشيت بينكم، لأرفعكم.
أتيت لأدعو الخطاة للتوبة،
لأنقذهم من براثن إبليس.
أبشرهم بملكوت أبيهم.
فلم آتِ لأبث في القلب كآبة،
لكن أتيت لأبدل الأحزان بالفرح.
وأعطيه معنىً جديدًا،
أعطيه جوهرًا؛ هو شخصي.
أحول النوح إلى رقص،
ليزداد البائسون فرحًا بي.
وأكون أنا لحن فرحهم،
وأغنية موسيقاهم،
بالرغم من أزمنة الضيق التي في العالم.
حللت فيكم،
لا لأكون أولوية ضمن الأولويات،
لكن لأملك جلَّ القلب،
أنا الأول والآخر،
البداية والنهاية،
الملء الذي يملأ الكل،
الهدف والغاية،
الطريق والحق والحياة.
جئت لأسكن القلوب المتضعة؛
تلك القلوب التي أحبتني بكل قدرتها،
بكل ما فيها،
تلك القلوب التي سلمت لي إرادتها لأحييها،
لأنقيها،
لأطهرها،
وآتي أنا والآب لنمكث فيها.
قل لهم أني أحبهم،
أنتظرهم،
كما ينتظر الأب أبناءه،
أعرف جراحهم،
وسأشفيها،
أنتظرهم هناك في المذود،
في القلب،
في الداخل،
سوف يجدونني.
كفاهم اغترابًا،
كفاهم تيهًا عني،
كفاهم عيشًا في ملهاة الحياة،
كفاهم بُعدًا،
بُعدًا عن المذود،
واغترابًا عن القلب.
كفاهم هروبًا من النور،
أنا النور! النور الحقيقي،
النور الذي يفضح الظلمة،
اسألهم:
هل أحببتم الظلمة؟
هل آوتكم ظلمة هذا الدهر؟
أو تظنونها ملجأً!
أبِلْكَاد تفهمون!
أهكذا قلوبكم متحجرة!
مغلقة أمام النور!
ممن تهربون؟
أو مما تخافون؟
مَن خدعكم!
ومن صدقتم!
فلا الظلمة ملجأ،
ولا ستارها مخبأ!
فالشرير وحده من يأمَن الظلمة،
يتلوى كل أيامه،
الرعب يسكن قلبه كل حياته،
فيختبئ.
وحتمًا سوف تسلِّمه الظلمة للموت.
أنا جئت لأفضح أعمال الظلمة،
كلمات الظلمة،
دوافع الظلمة،
كل من يحب الظلمة يبغضني،
ولا يستطيع أن يعرفني.
لكنِّي نورٌ يهدي التائهين في الظلمات،
منارةٌ ترشد المسيرة،
في بحرٍ هائجٍ متلاطم الأمواج؛
طريقٌ للنجاة،
بلسمٌ للشفاء،
ملاذٌ للراحة،
ومصدرٌ للسلام.
حضني ملاذٌ للجميع،
للثقيلي الأحمال،
للمطروحين جرحى،
لمن قست عليهم الأيام،
وطحنتهم الليالي المعتمة.”
أبلغهم آخر كلماتي:
“أنا حللت فيكم،
أتريدون أن تروا مجدي؟
مجد وحيد الآب؟
أعطوني قلبكم،
قلبكم هو مذود ميلادي،
مكاني،
مستقري،
ملكوتي،
هناك أريد أن أمكث.
خيمتي في وسطكم،
هيكلي هو أنتم،
أنتم مجدي،
أنتم خاصتي،
إليكم جئت،
وسآتي أيضًا لأخذ خاصتي،
كنيستي.”
قل لخائفي القلوب:
“تشددوا،
هوذا إلهكم،
آتٍ سريعًا،
ليكن حلمكم معروف عند جميع الناس،
إنِّي آتٍ قريبًا
وستنظرون وجهي
وتفرحون معي؛
في ملكوتي.
استعدوا،
تيقظوا،
تقووا،
أنا قريب.
سآتي حتمًا،
خروجي يقين كالشمس،
ولن أتوانى في مجيئي،
أنا آتٍ سريعًا.”
أمين تعال أيها الرب يسوع.
رفيق رفعت
6 يناير 2025
برمون الميلاد