وَفِيمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ. فَكَسَرَتِ الْقَارُورَةَ وَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ. وَكَانَ قَوْمٌ مُغْتَاظِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالُوا: لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ الطِّيبِ هذَا؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ. وَكَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا. أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: اتْرُكُوهَا! لِمَاذَا تُزْعِجُونَهَا؟ قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا! لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْرًا. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا. قَدْ سَبَقَتْ وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ، تَذْكَارًا لَهَا. (مر14: 3-9) // (متى 26: 6-13؛ يو 12: 1-8)

إنّ هذا الحدث بمثابة نسمة رائقة في يوم حار وشمس لاهبة. ما بين أجواء التشاحن والتآمر للتخلّص من يسوع، تطلّ علينا امرأ لتقوم بعملٍ غير معتادٍ. عملٌ يطيب له القلب، ويقودنا إلى عالم القلوب.

ما قبل دخول المرأة بعطرها الحبّي الآسر، نقرأ:

وَكَانَ الْفِصْحُ وَأَيَّامُ الْفَطِيرِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ.

وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ

كَيْفَ يُمْسِكُونَهُ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُونَهُ،

وَلكِنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ فِي الْعِيدِ، لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ.

(مر14: 1-2)

وبعدما رفع المسيح من شأنها، ووضع القلب المحبّ على منارة ليضوى عابرًا الأزمنة، نقرأ:

ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَاحِدًا مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ،

مَضَى إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ.

(مر14: 10)

القديسان متى ومرقس، بالروح، يضعان يسوع ما بين التآمر والحبّ، وما بين التفنّن في القتل وبين رقّة تطييب الجسد.

يبدأ المشهد باسم منفّر؛ سمعان الأبرص! في مجلس الأبرص اتكأ يسوع، كما اعتاد أن تكون جلسته أشبه بموزاييك من أنماط كثيرة من البشر لا تحتملها أروقة الهيكل، ولا مجالس الكتبة والفريسيين والناموسيين. تلك أزمة يسوع المستمرة مع القادّة؛ أنّ يسوع دائمًا ما كان يجلس مع الأناس الخطأ من وجهة نظر القادة. تتصدّر المشهد امرأة، في بيت رجلٍ أبرص، وسط حنق قوم مغتاظين. دراما تلهم أعظم العقول في أدب النفس. دراما تكشف لنا كيف أنّ الربّ يسوع يعيد تقليب الأوراق ليستخرج قصاصات يختمها بختم القبول وسط أختام من الشرعيات الزائفة.

دخلت المرأة؛ مريم، مدفوعة بالحبّ. الحبّ لغة فاعلة لدى مريم. والحبّ لغة إدراك في استقبال يسوع. إنّها لغة القلب التي يفك الربّ يسوع شفرتها، ويبتهج حينما يتنسم أريج الصدق فيها. لقد دخلت مريم في المجلس، أو بالأحرى اقتحمته بفعلتها. جرأتها يبدو أنّها تجاوزت الأعراف والتقاليد المرعية. لم تسع للتجاوز، ولم تكن مدفوعة بحالة تمرّد على الأعراف والتقاليد. لم تكن تحت أسر الافتتان النابع من أهواء شريرة. لقد كان الربّ لها واحة شفاء. لقد اختفى وتلاشى الجميع في محضر الربّ. كأنّنا أمام مشهد سينمائي تصمت فيه الأصوات، وتختفي الأوجه، ليشع وجه الطُهر الجاذب وحده.

مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ

(نش1: 12)

كيف حرّكها الرّوح لتقوم بهذا الفعل غير المُبرَّر. لقد دخلت في صمت، وخرجت في صمت، لأنّ الربّ يسوع كان هو كلمتها، وهو الذي تكلّم عنها، وأفصح لها، ومن خلالها، عن فعلٍ تقوم هي به، على الرّغم من أنّها لم تُمَنْطقه في العقل.

لقد اندفعت لتكسر قارورة طيبٍ غالٍ! يقدَّر بثلاثمئة دينار؛ أجرة عام كامل من العمل والكد لعامل في اليهوديّة آنذاك.

اندفاعٌ لا يتمكّن من قراءة دوافعه غير الفاحص للقلوب والكلى. كثيرًا ما يُفَسِّرنا الربّ يسوع لأنفسنا. يُعْلِن لنا ما يحرِّكنا. يقف ليدافع عن موقفنا أمام القوم المغتاظين من أفعال حبٍّ غير مُبَرَّرة. 

ولكن، من يبرِّر الحب؟! من يستطيع أن يحامي عن اندفاعاته؟!

لأَنَّنَا إِنْ صِرْنَا مُخْتَلِّينَ فَلِلّهِ،

أَوْ كُنَّا عَاقِلِينَ فَلَكُمْ.

لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا.

(2كو5: 14)

الحبّ حصارٌ واختلالٍ في عالمٍ الجمود، والقسوة، والنفعيّة، والبرجماتية. تحصرنا المحبّة. تعصرنا لتستخرج عصارة كرمة مشتهاة للآب. الحبّ مرضٌ؛ أَنِّي مَرِيضَةٌ حُبًّا (نش5: 8) يحيي النّفس المائتة. ترياقٌ يرفع حرارة الجسد للقضاء على الأجسام الدخيلة؛ الخطيئة.

أحبّ المسيح فبذل ذاته، وأحبّت مريم فكسرت قارورتها. الحبّ ليس فكرّة، ولا شعارًا، ولا إيماءة، ولا جدليّة، ولا شعوريّة خاملة، ولا اكتفاء بخفقات قلب الذات! الحبّ قوّة دافعة للسعي نحو المحبوب. ليس موقفًا أعمى كما نادى أفلاطون، ولكنّه بصيرة جديدة يراها البعض اختلالاً! ليس كلّ اختلالٍ حبّ؛ ولكن كلّ حبٍّ ينضوي على اندفاع غير مبرَّر في الكثير من الأحيان.

لقد اقتربت مريم بطيب الناردين الغالي. رأت أنّه أحبّها أولاً، فانحنت حبًّا. كسرت عنق القارورة ليفوح العطر. عادّة ما تستخدم مثل تلك القوارير مرّة واحدة بعد كسرها. كانت، بحسب بليني الأكبر، تحتوي أفضل أنواع العطور والتي تحفظ في قارورة من المرمر (Natural History XIII. iii. 19)، وعادّة ما يتم توريث مثل تلك القوارير لمناسبة كبرى في الحياة. لقد تحرّكت بالروح، لتشارك في اللّحظات الكبرى لمشروع يهوه. إن خُيِّرت ألف مرّة ستقدم على نفس الفعل؛ إنّه الحبّ.

أَخْبِرْنِي يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي أَيْنَ تَرْعَى أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ.

(نش1: 7)

هل كانت تعي أبعاد فعلتها؟! هل كانت تدرك أنّ موت الربّ وشيك، وأنّه سيُدْفَن من دون تطييب لائق؟! هل دار بخلدها أنّها ستكون بمثابة الملاك الذي يخدم جسد الربّ في موكبه الأخير لملاقاة قوى الظلام كمحاربٍ عنها وعن البشر؟!

لقد كانت الدهن والمسحة أمرًا مألوفًا في الأعياد لدى اليهود (مز 23: 5؛ 141: 5؛ لو 7: 46)، ولكن بطبيعة الحال ليس من امرأة! وليس وسط جمع هكذا! وليس بمثل تلك الطريقة!!

ما بين مريم ساكبة الطيب، ومريم الواقفة تحت الصليب، والمريمات زائرات القبر فجرًا، نُسجت القصّة الخلاصيّة. لم تكن كلّ المشاهد المحيطة بالربّ يسوع خيانة وتآمر، ولكن كان ثمّة ”مريم“، تؤمن، وتصدّق، وتظهر في أوقات الاختباءات الكبرى، وتشهد في أزمنة الخيانات المدويّة، وتحبّ وسط أجواء الكراهيّة والتشهير المحيطة بالربّ يسوع. هناك ”مريم“ تختار النصيب الصالح، بفطنة، ولن ينزع منها. (لو10: 41)

الحبّ يُكْرَز به؛ هكذا أعلن المسيح. الحبّ تذكارٌ يتجاوز النسيان. حبّ مريم انقاد بالتدبير الإلهي، لم يكن فوضويًّا ولا عشوائيًّا، بل كان في صميم تدبير الله.

ما بين فلسي الأرملة (مر12: 41-44) وقارورة ناردين مريم تبقى كلمة السرّ هي تقدمة كلّ شيء من قلب ممتلئ بالحب، ونفس مملوءة بالاتضاع والرّغبة في إكرام الربّ. الأولى ألقت كلّ ما عندها، كل معيشتها في تواضع الحبّ، والأخيرة كسرت أثمن ما لديها في تواضع الحبّ.

إلاّ أنّنا اعتدنا الأصوات الشاذّة في كلّ مرّة يكون المشهد آسر مفعم برائحة عدن الأولى. ثمّة حيّة دائمًا تفسد التناغم بكلامٍ مفخَّخ يبدو منطقيًّا لمن تغرّب عن مشورة الله.

قومٌ مغتاظون، وتلميذ يتذاكى على السيّد، وقياسات تبدو أخلاقيّة، ولكن من الداخل قبور ممتلئة عظام أموات وكلّ نجاسة.

هَبّ يهوذا منتفضًا ليضع يسوع في مقابل الفقراء، ولنرصد مواجهة ما بين فعل المرأة وحكمة أمين الصندوق!

لقد اعتاد اليهود في هذا الموسم من العام أن يعنوا بالفقراء (M. Pesachim IX. 11; X. 1)، وعادة ما كان يتم تقديم ما يزيد عن العشور كصدقة للفقراء.

الفرصة مواتية، والمنطق حاكم، والاحتياجات لا حصر لها، والفقراء ذريعة مناسبة، والتوراة مُسْتَندٌ للحجة!

طُوبَى لِلَّذِي يَنْظُرُ إِلَى الْمِسْكِينِ. فِي يَوْمِ الشَّرِّ يُنَجِّيهِ الرَّبُّ.

(مز41: 1)

لأَنَّهُ لاَ تُفْقَدُ الْفُقَرَاءُ مِنَ الأَرْضِ. لِذلِكَ أَنَا أُوصِيكَ قَائِلاً:

افْتَحْ يَدَكَ لأَخِيكَ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ فِي أَرْضِكَ.

(تث 15: 11)

أطلَّ يهوذا في المشهد كمحامٍ عن الفقراء ليدين إسراف امرأة متسربلة بالجهالة! من يستطيع أن يخطِّئه؟ هكذا اعتقد، وانتقلت غيرته الخادعة، وانطلت على المحيطين، فانقادوا إليه.

نفس الحس البرجماتي الذي نادى به قيافا رئيس الكهنة؛ خير أن يموت إنسان واحدٌ عن الشعب، ولا تهلك الأمّة (يو11: 50). الفقراء أولى بالمال! نجاة الأمّة أولى من حياة يسوع! يبدو الموقف منطقي، والقرار محسوم!

حينما يشير يهوذا على المسيح بالصواب والخطأ فنحن لا زلنا تحت صفصاف عبوديّة بابل .. تحت شجرة معرفة الخير والشر النابتة من أهواء الذات .. لا زلنا أسرى منطقنا لا إعلانات الله!

رفع يهوذا هامة الانتصار، وهو ينتصب كصوت الفقير والمعدم في محضر يسوع! لقد كشفه يوحنا في إنجيله (يو12: 6)؛ إذ أنّ يهوذا كان سارقًا. صندوق الجماعة منهوبٌ لهوى يهوذا الذي لا يشبع. لقد فاحت رائحة أطماعه حينما رأى ثلاثمائة دينار تنسكب على جسد المعلِّم، وكان من الممكن أن يحظى هو بها. كان من الممكن لقارورة الطيب أن تباع، كما أنّ الربّ نفسه يمكن أن يُباع. كلّ شيء له مقابل لدى يهوذا. حسنًا، لا زالت الثلاثين من الفضة في انتظاره، قبل أن يختنق بهواه، ويموت في غربةٍ في حقل الدّم.

لقد سأل الفريسيون والهيرودسيون المسيح يومًا حول الجزية أتعطى لقيصر أم لا؟ سؤال شرعي، قد مهّدوا له بكلمات ملقٍ؛ يا معلِّم، نعلم أنك صادق ولا تبالي بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس، بل بالحق تعلم طريق الله! إلاّ أنّ الرّب كشف ريائهم؛ إذ كان الهدف من السؤال هو أنّهم حاولوا أن يصطادوا كلمة منه لتنضم إلى محضر الدعاوى المرفوع ضدّه في الشكاية الكبرى تمهيدًا للحكم عليه!

ليس كلّ سؤال منطقي وشرعي هو صوت الحقيقة! وليس كلّ صوتٍ يمتلك حجّة هو صوت الحقيقة!

أحاطها الحاضرون بالملامة، شكّكوا في شرعيّة المحبّة، أزعجوها!

إلاّ أنّ الربّ يسوع وقف بينها وبين الملامة، كما وقف من قبل بين المرأة الخاطئة ومن أرادوا دينونتها. 

إنّها إنما فعلت ذلك لتكفيني .. قال يسوع.

صوت قلبه خاطبهم؛ سوف أغادر عن قريب .. اتركوا الحبّ يكتمل .. اتركوا مراسم التكفين تكتمل .. اتركها يا يهوذا فلن تكون حاضرًا في لحظات مواجهتي للقبر لأنّك لم تميّز علامات الحبّ ..

وإن كان الفقير يشغلكم؛ فأنا الفقير والمسكين الذي ليس له أين يسند رأسه. ها رأسي تستند إلى حبٍّ صادق فلا تمنعوه بحكمة العالم .. حكمةٌ ليست من الله ..

لقد اعتاد الربّ يسوع أن يضرب أمثالاً تكشف عن تحولات كبرى في فهمنا للحق والباطل. والآن، وفي ساحة سمعان الأبرص، نرصد مشهدًا دراميًّا يكشف عن تحولات كبرى؛ أبرص يستضيف يسوع! امرأة تقتحم المجلس، وتسكب طيبًا غال الثمن، وتمسح الرأس! تلميذٌ من الاثني عشر مغتاظٌ ممّا يحدث وينطق باسم الفقراء ..

بعد قليل نرصد اكتمال الدراما؛ تلميذ يبيع سيّده بهوى المال، وامرأة التزمت بحبّ سيّدها رغمًا عن المال ..

لقد حرّكها الرّوح لتقوم بمراسم التطييب بشكل استباقي، إذ أنّ دفن الجسد من دون تطييب، يشير إلى أنّ المدفون مجرمٌ لا شرف له! وذلك بحسب تصريح يوسيفوس (Josephus Ant. 4.8.6 §202). لم يستطع يوسف الرامي أن يُطَيِّب الجسد، كما أنّ النساء وصلن متأخرًا فلم يتمكنوا من تطييب الجسد. لم يتبقَّ سوى طيب مريم.

لقد عرفت مريم سرّ الجلوس تحت أقدام السيّد والانصات إلى تعاليم الحياة، وها هي الآن، تبرهن أنّ التعاليم أثمرت وفرة من الحبِّ قد ملأ القلب وفاض، وقد أحنت قلبها لهمسات الروح الإلهي، الذي قادها لعملٍ ملهمٍ يفوح متى حلّ الإنجيل، ليعلن أنّ الحبّ له قانونٌ من الروح؛ فأمور الروح تدرك بالروح (1كو2: 13)، ومن يدرك سرّ الجلوس تحت أقدام الربّ يقتاده الرّوح إلى ينابيع طيبٍ ليسكب ليل نهارٍ بفرحٍ كلّ غال وثمين؛ فقد افتدينا بدمٍ ثمين؛ دم يكشف كيف أحبّ الله العالم ليهبه الحياة الأبديّة.

الراهب سارافيم البرموسي

مقالات أخرى