من يقول الناس إنّي أنا؟ سؤال طرحه يسوع للتداول بين التلاميذ، وهو سؤال يستحضر من الأعماق صورته الشائعة، ولكنّه المدخل للسؤال الأهم؛ سؤال الإيمان: وأنتم، من تقولون إني أنا؟ (مت16: 13-14). حينما نخطو عتبات الكنيسة يسألنا الروح عن المسيح؛ كيف ترى المسيح؟ من هو بالنسبة لك؟

يردّد البعض، بقوّة الاعتياد، التصريحات الاعتقاديّة المألوفة والمحفوظة. والبعض يتجاوز السؤال، وينفلت منه، ويدخل إلى الكنيسة، بقوّة الاعتياد. والبعض يدخل بشكوك حول هويّة يسوع لأنّ سؤال؛ من يقول الناس إنّي أنا؟ تداخل مع سؤال؛ من تقول إني أنا؟ إذ يراه البعض بأعين الآخرين، بعين العالم؛ والعالم حتى هذا اللّحظة لا يستوعب سرّ الإخلاء، ويقف أمام يسوع ويتعجّب من بخور التسابيح الذي تقدّمه له الكنيسة كربّ وإله. هو يراه يأكل، ويشرب، ويحزن، ويكتئب، ويحتاج، ويتألّم، ويُهان، وهو لا يُحرّك ساكنًا!
الربوبيّة في عالم النّاس بعيدة .. منزّهة عن الخليقة .. متعالية .. لا تتصل بالبشر سوى بالوصايا والفروض ونصوص وحركات العبادات. لا يُعرَف عنها سوى بضع صفات تتباين بين وجهي القوّة والرّحمة.
أمّا يسوع؛ الربّ:
ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ
وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ.
كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ،
وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا
فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ.
(إش53: 7)
صامتٌّ!
الصمت من علامات الضعف في عالم الناس!
مظُلومٌ!
الظُلم من علامات الهوان في عالم الناس!
شاةٌ! نعجةٌ!
مفردات متدنيّة في عالم الناس!
حامل للأوجاع والأحزان! مضروبٌ مُذل! مجروح! مسحوق!
يشمئز المزاج الإنساني الذي تربَّى على ألوهة القوّة والتنزيه دونما إخلاء من تلك اللّغة الكتابيّة! لازالت عثرة أمام الذي يبحثون في ثوب يسوع عن رائحة آلهتهم. لا يزال يسوع المضرج بالدماء على الصليب، وهو مُقيَّد حجر صدمة، وصخرة عثرة (رو9: 33). لازال صليب يسوع جهالة (1كو1: 18)؛ لأنه لغة الهوان، والهوان لغة المخلوق! لمَنْ فُطِمُوا بالروح في الإيمان؛ الصليب قوّة الله؛ لأنّ لغة القوّة في إيماننا حُبٌّ تَجَسَّد، وكلّمة تأنسن. الحبّ الأعظم أن يضع شخصٌ حياته عن آخرين، ويتصاعد الحبّ إلى أفقه الأقصى حينما يضع شخصٌ حياته عمّن يناصبوه العداء (رو5: 10)! إن كانت تلك لغة الحبّ في عالم البشر؛ فقياس الحبّ لدى الله لا شك ينضوي على إخلاء هائل. حبّة الحنطة تموت لتُحي؛ وابن الله، يقبل موتًا بالجسد، ليُحيي بشريّة مائته بحياته المنتصرة على شوكة الموت. لازال الإنجيل مكتوم في الذين لم يختن الروح أذهانهم بنصل النور المحيي؛ في الذين لَمْ يَقْبَلُوا مَحَبَّةَ الْحَقِّ حَتَّى يَخْلُصُوا. (2تس2: 10).
سرّ الإخلاء مازال مختومًا! البرقع (2كو3: 14) لازال حاجبًا لسرّ الحبّ الذي اخترق جَلَد الواقع البشري، ومرّ من هنا، ناثرًا طيبًا جديدًا من رائحة الألوهة لتَختن معارفنا من غُرلة صورة لإلهٍ غائمة من وراء الغيوم، لا صلة لها بالإنسان. لازال شعبي لا يفهم (إش1: 3).
عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا،
وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ (إش53: 9)
لم يتألّم كفاعل شرٍّ؛ بل كحامل شرور العالم!
إنّ الحمل المذبوح قد يكون هو أفق رؤيتنا، ولكن الملك الممجّد هو أُفق إيماننا!
نحن نسبِّح بالإيمان؛ إذ قد تطّهر قلبنا بالإيمان (أع15: 9)، لنعاين الله. نرتقي ونصعد إلى جبل الربّ لتغتسل أذهاننا في المقادس بدم الربّ يسوع (عب10: 19)؛ لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا. (عب9: 24). من هناك نرى إنسانًا واحدًا جديدًا (أف2: 15)، وواقعًا وحيدًا جديدًا. لا انقسامات في الرؤية الإيمانيّة وسط بخور التسابيح. لا حاجز متوسّط يحجب عنّا الله. عالمٌ واحدٌ ومُوَحَّد في الله. الأسد والحمل مفردات متناغمة في التسبحة الجديدة.
نصعد بالإيمان درج الإيمان لنعاين الحقيقة الخلاصيّة في وجه الابن المضرج بالدماء الملكيّة وحوله جوقات ملائكة وهتافات مدوّية تحتفل بخلاص السيّد؛ والخلاص معاناة وقيامة معًا.
ومع السمائيين تبدأ تسابيحنا!
إنّ التسبيح فعل إيمانٌ هائلٌ. نحن نرتل إيماننا. قد تتباين الأفكار في أذهاننا، ولكن في التسبيح، ننجمع، لنرتل نشيد الإيمان. التسبيح يوحّد قلوبنا، بينما الأفكار قد تمزّعها. أمام الحقيقة الإلهيّة نتخذ موقف الجمع السمائي؛ التسبيح. نحتفل في القلب، وفي الإنسان الباطن، ونقدِّم ثَمَرَ شِفَاهٍ مُعْتَرِفَةٍ بِاسْمِهِ (عب13: 15). ننفض غبار التسويف، والتأجيل، والفحص، والتمحيص، والتجريد، والتنظير. نترك أكفان القناعات الفكريّة الباردة ونصطلي على نار التسبيح.
حينما يكون؛ عِمَّانُوئِيلُ إِلهُنا في وَسَطِنا بِمَجْدِ أَبيهِ وَالرُّوحِ القُدُسِ، نحتفل بملوكيته بأبواق التسبيح للملك المقتدر المجيد المبارك العزيز. لقد عاين القديس يوحنا جماعة المسبحين السمائيين في يوم الربّ. كانوا يسبحون عيانًا إذ يرونه وجهًا لوجه. ونحن، نتسلّل بالإيمان لننضم لصفوف المُسَبِّحين، وسط الأجناد الملكيّة، لنرتل تراتيل المعاينة الكاملة.
مُسْتَحِقٌ هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ
الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْكَرَامَةَ، وَالْمَجْدَ، وَالْبَرَكَةَ!
(رؤ5: 12)
آمِينَ! الْبَرَكَةُ، وَالْمَجْدُ، وَالْحِكْمَةُ،
وَالشُّكْرُ، وَالْكَرَامَةُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْقُوَّةُ لإِلهِنَا إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ!
(رؤ7: 12)
لك القــوة والمجــد والعــزّة
ونحن نسبح في الأسبوع الفصحي، وفي ارتحالنا مع الربّ في رحلة التجديد:
لَكَ الْقُوَّةُ وَالْمَجْدُ وَالْبَرَكَةُ وَالْعِزَّةُ، إِلَى الْأَبَدِ، آمِينَ.
عِمَّانُوئِيلُ إِلٰهُنَا وَمَلِكُنَا.
إنّها التسبحة التي تعلن أنّنا قد تجاوزنا شكوك العقل الطفوليّة، إذ آمنّا، وتذوّقنا عمل الحياة في قلوبنا. قد تجاوزنا تساؤلات نيقوديموس البديهيّة في زُقاق العقل الضيّق، وتجاوزنا طلبة أمي زبدي بمملكة أرضيّة لنا فيها ميراث، وتجاوزنا نزاعات التلاميذ عمّن الأعظم، وتجاوزنا انفعالات بطرس غير المنضبطة بخصوص آلام الربّ، وتجاوزنا سؤال بيلاطس عن الحقيقة التي لا جذور لها في مملكة الله، وتجاوزنا السبت، والناموس الجامد، وتقاليد الناس، وأناشيد الهيكل الباردة، ونغمات تُمَجِّد قوميّة يهوديّة، وتستحضر حماسة لأرضٍ ومكانة وامتياز، وذبائح ودماء مسفوكة لا تُخلِّص، وتجاوزنا حكمة رئيس كهنة يده ملطخة بالدماء لحماية الأرض! وانطلقنا على سُحب الإيمان في آفاق الروح الرّحبة لنرصد، ما يجري في السماويات، ونكون شركاء في التسبحة، إذ قد صارت لنا شركة في هبة الخلاص.
لنرتفع على سحب التسابيح إلى الخدر العلوي علينا أن نجيب على السؤال: مَنْ تقول إنّي أنا؟
هناك من يراه:
رجلٌ من عالمٍ غابرٍ ظلمه بني جلدته!
نبيٌ ناله ما ناله من أجل دعواه!
مغامر لم يستطع أن يُقَدِّر الخطر في مواجهة أعداء متمرّسين في القضاء على المخالفين!
ثوري أُجهضت ثورته في مهدها!
شخصٌ تقي ألقى عليه الناس بهالة لم يزعم هو أنّها له!
خدعة من خداعات التاريخ!
صوت حبٍّ في عالمٍ مسكون بأرواح الكراهيّة!
سقراط جديد في أمّة اليهود!
نصوص يُعاد تفكيكها بمشرط النقد كما لجثّة ميتة!
وأنت؛ من تقول إنّي أنا؟
أنت من لَكَ الْقُوَّةُ وَالْمَجْدُ وَالْبَرَكَةُ وَالْعِزَّةُ، إِلَى الْأَبَدِ، آمِينَ.
أنت هو عِمَّانُوئِيلُ إِلٰهُنَا وَمَلِكُنَا.
هذه هي أنشودة الإيمان .. نرتّلها إن كانت ولادتنا من فوق. نرتلها في كلّ ساعات النهار والليّل العشر، بحسب الترتيب الكنسي. أنشودة تفتح بصائرنا على الحقيقة التي تتجاوز مرويات التاريخ. أنشودة تَنْسِج من النبوَّات، وفهمها بالروح، لا بالجسد، ثوبًا تُرى فيه الحقيقة.
لقد استُعْلِن لإشعياء أنّه:
عَجِيبًا مُشِيرًا (أو المشير العجيب)، إِلهًا قَدِيرًا،
أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ.
(إش9: 6)
هو رئيس يملك بالسلام، وأبٌ؛ نبعٌ للحياة الأبديّة، وإله جبَّارٌ. إنّه الذي يُشيِر، ولا يستشير حُكماء الناس؛ لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟ (رو11: 34)؛ فهو الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ (كو2: 3).
نبوّات إشعياء ترسم المفارقة الكبرى بين الملك / الولد، وهو ما يلتقطه جون إن أُسوالد، في تعليقه على نص إشعياء السابق، فيقول:
إنها المُفارَقةُ المَركزيَّةُ في مَفهومِ إشَعياء لخَلاصِ يهوهُ لشَعبِه. كيفَ سيُخَلِّصُ اللهُ من الغَطرَسَةِ، والحَربِ، والظُّلمِ، والقَهرِ؟ هل بأن يكونَ أكثرَ غَطرَسَةً، وأكثَرَ حَربيَّةً، وأكثَرَ ظُلمًا، وأكثَرَ قَهرًا؟ بالتأكيدِ، يُشيرُ سِفْرُ إشَعياء بشكلٍ مُتكرِّرٍ إلى أنَّ الله كان قويًّا بما يَكفي لِتَدميرِ أعدائِه في لَحظةٍ، ومع ذلكَ مِرارًا وتِكرارًا، عندما يَصِلُ النبيُّ إلى قَلبِ طريقِ الخَلاصِ، يَطُلُّ علينا وَجهٌ طُفوليٌّ [النبوّة الخاصة بميلاد الابن]. الله قويٌّ بما يَكفي لِلتغلُّبِ على أعدائِه بأن يُظهِرَ ضَعفًا، مُنفتِحًا بِالتَّمامِ، ومُتواضِعًا – إنَّهُ الرَّجاءُ، في الواقِعِ، لِتَتَحوَّلَ العَداوَةُ إلى رِفْقَةٍ..
هو رئيس السلام، ولكن السلام أكثر من مجرّد نفي للأعمال العدائية، ولكنّه تأسيس لنظام قائم على البرّ والعدل؛ وَيَكُونُ صُنْعُ الْعَدْلِ سَلاَمًا، وَعَمَلُ الْعَدْلِ سُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً إِلَى الأَبَدِ. (إش32: 17) هذا يتحقّق في المسيح فقط؛ لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ (أف2: 14).
إنّه الملك المتوَّج الذي لم تُنتَزع ملوكيته بمظالم الناس، وافتراءات القادة، وقيود السلطة، وعنفوان الجنود، والدماء السائلة، والأنّات الصاعدة، والصليب المُشْرَع لقهر مشروع الملك الذي ضجّت به أورشليم يوم مولده، ونخس هيرودس بالخوف على صولجانه وعرشه!
مَنْ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ عَلَيَّ؟
هُوَذَا كُلُّهُمْ كَالثَّوْبِ يَبْلَوْنَ. يَأْكُلُهُمُ الْعُثُّ
(إش50: 9)
إنّه القضيب الخارج من جذع يسى؛ الغصن النابت من الأصل، والذي يحلُّ عليه رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ (إش11: 1-2).
لذلك، وعلى إيقاع اللّحن النبوي، ووسط الجمع السمائي، لا نحتفل بذكرى تاريخيّة؛ ولكن بملء إيمانٍ أنّ الملك في وسطنا، وهو يملك الآن، وهنا، بقدرة ومجد وعزّة وفيض بركات إلى الأبد.
نحن نحتفل بملكٍ انتشلنا من الموت، ووهبنا الحياة والخلود.
نحن نحتفل بانحسار الظلمة، في محضر بهاء النور الأبدي.
نحن نحتفل بعضويتنا الحيّة في جسدٍ له رأس في السماويات، ويمتد عمل الرأس في الجسد عبر العصور والأدهار، ليحي الجسد بقداسة ابن الله، ونصرته على العالم الحاضر الممسوك في قبضة الشرير.
نحن نحتفل بحريتنا من القيود التي أدمت أرجلنا، وسواعدنا والتي قيدتنا بشجرة المعرفة العادمة الحياة.
نحن نحتفل بمُلك يهوه الجديد في عهدٍ جديدٍ ..
هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ،
وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا.
(إر31: 31)
لقد أعلن الروح ليوحنا ماهيّة الملك، فانتفص محتفلاً، ومُسَبِّحًا للملك، إذ رأى المجد. المجد المفقود في إسرائيل ظهر في الابن. الابن هو الهيكل الجديد الذي فيه يُسْتَعْلَن مجد الشاكيناه والحضور الإلهي ..
وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا،
وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ،
مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ،
مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا.
(يو1: 14)
لقد رأينا مجده، على الرّغم من أنّه صار جسدًا ..
لقد رأينا مجده، على الرّغم من نَصْبِ خيمته بيننا ..
مجده لا يُرى إلاّ بالإيمان ..
إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ اللهِ
(يو11: 40)
مجدٌ مُفْعَم بالنعمة الفائضة باللُّطف علينا (أف2: 7)، مجدٌ في ملء الحق؛ إذ أنّه يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ (مت12: 20)، لأنّه يعرّفنا بالحق الذي يُحرِّرنا (يو8: 32)؛ فهو الحق (يو4: 6) الذي انكشف لنا سرّ الله، فيه.
مجد النّاس يُرى في الثروة، والمكانة، واللباس، والسلطة، والقدرة الحربيّة، والحشود؛ أَلَيْسَتْ هذِهِ بَابِلَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي بَنَيْتُهَا [نبوخذنصّر] لِبَيْتِ الْمُلْكِ بِقُوَّةِ اقْتِدَارِي، وَلِجَلاَلِ مَجْدِي؟ (دا4: 30). أمّا مجد الله فيُرى إمّا كحضور مزلزلٍ طاغٍ؛ وَكَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيلَ (خر24: 17)، وإمّا في وجه ملك السلام الذي حلّ بيننا .. هذا المجد يُرى بالإيمان ..
يكتب القديس كليمندس السكندري في مؤلّفه حض اليونانيين، عن دخولنا لمجد الآب، في الابن، فيقول:
فَتِّشوا بِاجتِهادٍ عنِ المسيحِ الذي يقولُ: أَنَا هُوَ اَلْبَابُ (يو ١٠: ٩)، الذي يَنبَغي أن نَبحثَ عنه ـ نحنُ الذينَ نُريدُ أن نُدرِكَ الإلهَ ـ كي يَفتَحَ هو لنا أبوابَ السماءِ؛ لأنَّ أبوابَ الكَلِمَةِ اللُّوغوس عَقلِيَّةٌ، ويَفتَحُها مَفاتيحُ الإيمانِ. وليسَ أحدٌ يَعرِفُ الآبَ إلا الابنُ ومَن أرادَ الابنُ أن يُعلِنَ له (مت ١١: ٢٧). أُدرِكُ جيِّدًا أنَّ الذي فَتَحَ البابَ المُغلَقَ منذُ فترةٍ طويلةٍ، سوفَ يَكشِفُ بعدَ ذلكَ ما كانَ داخِلَه، موضِّحًا ما لم نُدرِكهُ قَبلًا، عَدا أنَّنا دَخَلنا بالمسيحِ، الذي من خلالِه وحدَه نَنظُرُ الإلهَ.
لقد صُلِبَ المسيح في التاريخ، ولكن مجد ملوكيته يُرى بالإيمان، بالروح. لا يمكن الإقرار بربوبيّة المسيح يسوع من دون الرّوح القدس (1كو12: 3)؛ روح الإعلان.
إنّ هويّة داود الملكيّة لم تدرك بالرّصد التاريخي. لم يتمكن الشعب من رصد ملوكيّة داود الفتى من بعد مسحة صموئيل ولا الاستدلال عليها. بعد أن وطأت قدماه القصر، احتُفِلَ به ملكًا. غير أنّه كان الملك في عين الله، منذ لحظة مسحته. الممسوح بالروح، يُكشَف بالروح، لمن يقوده الروح؛ فالرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ (1كو2: 10).
إنّ زوايا الرؤية مختلفة ما بين الإيمان والعيان ..
إن كنا نُصْلَب عن العالم، في التاريخ، إلاّ أنّ مجد طبيعة حياتنا الجديدة يرى بالإيمان ..
مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ،
فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ.
فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ،
فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ،
إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي
(غل2: 20)
حينما ندخل الكنيسة، متسربلين بالإيمان، نُقَدِّم للربّ (نعترف له) مجدًّا وعِزًّا (مز29: 1)؛ مجدًا وقُوَّة (مز96: 7)؛ إذ أنّ المجد والجلال قدّامه، العز والجمال في مقدسه (مز96: 6). في محضره؛ يُخْفَضُ تَشَامُخُ الإِنْسَانِ، وَتُوضَعُ رِفْعَةُ النَّاسِ، وَيَسْمُو الرَّبُّ وَحْدَهُ.. (إش2: 17).
يكتب إن تي رايت، في كتابه؛ الصلاة الربّانية، معلقًا على ختام الصلاة الربّانية؛ ”لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ“، فيقول:
لقد أصبحَ جليًّا أنَّنا أمامَ مملكتَين؛ مملكتَين مُقدَّرٌ لهما التنافُس، مملكتَين تُقدِّمُ كلٌّ منهُما تعريفًا يَختلفُ بشكلٍ جَذريٍّ عن الأُخرى عن معنى السَّلامِ والقوَّةِ والمَجدِ. ها هوَ المَلكُ العَجوزُ في روما، والذي يَبلُغُ السِّتينَ من عُمرِه في العامِ الذي وُلِدَ فيهِ يسوعُ، والذي ربَّما يُمثِّلُ أفضلَ ما يُمكِنُ أن تُقدِّمَهُ المَمالِكُ الوَثنيَّةُ، إذ هو يَعلَمُ، على أقلِّ تَقديرٍ، أنَّ السَّلامَ والاستِقرارَ أُمورٌ حَسنةٌ، ولكن لسوءِ الحَظِّ، كانَ عليهِ أن يَقومَ بِقتلِ الكثيرينَ لتحقيقِ هذا الاستِقرارِ والسَّلامِ. يَقتُلُ بشكلٍ مُنتَظَمٍ للحفاظِ على السَّلامِ للباقينَ. إلاَّ أنَّ جُلَّ اهتمامِه، في حقيقةِ الأمرِ، انصَبَّ على اهتمامِه بِمَجدِه هوَ الخاصِّ. وبالفعلِ، قبلَ وفاتِه، بدأَ العديدُ من رَعاياهُ النَّظرَ إليهِ وتَقديرَهُ كإلهٍ.
وعلى الجانبِ الآخَرِ، وعلى النَّقيضِ، نَرى المَلكَ العَتيدَ أن يَظهَرَ، وذلكَ في بيتِ لَحمٍ، ذاكَ الذي حينما وُلِدَ، كانت هناكَ مكافأةٌ وثَمنًا لِمَن يَأتي بِرأسِه. إنَّهُ يُمثِّلُ البَديلَ الخَطيرَ لما هو قائمٌ، ويَكشِفُ عن إمكانيَّةٍ لوجودِ إمبراطوريَّةٍ مُغايرةٍ، وقوَّةٍ تَختلفُ تَمامًا عن القائِمةِ، ومَجدٍ لا صِلةَ لهُ بالمَجدِ الحاليِّ، وسَلامٍ لا يُشبِهُ السَّلامَ الذي تُعلِنُ عنهُ إمبراطوريَّةُ روما.
ثَمَّةَ نظامانِ يَتواجَهانِ الآنَ؛ إمبراطوريَّةُ أغسطس، والتي تُشبِهُ غُرفةً مُضاءةً جيِّدًا في اللَّيلِ، ومصابيحُها مُرتَّبةٌ بشكلٍ جَميلٍ، وتُلقي بظِلالٍ جَماليَّةٍ على ما حولَها، ولكنَّها لا تَهزِمُ الظَّلامَ الذي في الخارِجِ. وفي المُقابِلِ، هناكَ مَلَكوتُ يسوع، والذي يُشبِهُ كوكبَ الصُّبحِ الذي أشرَقَ، مُعلِنًا أنَّهُ قد حانَ الوقتُ لإطفاءِ الشُّموعِ، وفَتحِ السَّتائرِ على مِصراعَيها، والتَّرحِيبِ باليومِ الجديدِ الذي يُبزُغُ. المَجدُ للهِ في الأعالي، والسَّلامُ بين أولئك الذين سُرَّ بِهِم!
إنَّ هذهِ الرُّؤيةَ المُزدوَجةَ للواقِعِ هيَ التي نَستَحضِرُها في كلِّ مرَّةٍ نَختتِمُ الصَّلاةَ الرَّبَّانيَّةَ بهذهِ الكلماتِ: لأنَّ لَكَ المَلكَ، والقوَّةَ، والمَجدَ، إلى الأبدِ. آمين.
يعتقد العالم أنّ الخلاص بالقوّة، والقوّة تعني جيشًا؛ ولكن بالإيمان نفهم؛ لَنْ يَخْلُصَ الْمَلِكُ بِكِثْرَةِ الْجَيْشِ. الْجَبَّارُ لاَ يُنْقَذُ بِعِظَمِ الْقُوَّةِ. (مز33: 16). يعتقد العالم أنّ القوّة تعني العتاد، والفرس، وتمرُّسه في ساحات الحروب، ولكن بالإيمان نفهم أنّه؛ بَاطِلٌ هُوَ الْفَرَسُ لأَجْلِ الْخَلاَصِ، وَبِشِدَّةِ قُوَّتِهِ لاَ يُنَجِّي (مز33: 17).
مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ؟
مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزًّا فِي الْقَدَاسَةِ،
مَخُوفًا بِالتَّسَابِيحِ، صَانِعًا عَجَائِبَ؟
(خر15: 11)
لقد سأل هيرودس المسيح: أنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ (يو18: 33)
لم يقبل المسيح ولم ينف، ولكنّه أعاد تعريف طبيعة المُلك، ونطاق عمله الآن؛ أَجَابَ يَسُوعُ: مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا. (يو18: 36).
جنود العالم يعملون من أجل استمرار ملوكيّة الملك، بسلطة السلاح، بينما جنود الله يعملون من أجل سيادة ملك الله بسلطة الحق على كلّ من آمن به، وخضع له. مُلك المسيح مدخله جُرن معموديّة كبير من مياه الحق، ومن يولد منها، ويصطبغ، يستطيع أن يُميّز، بالإيمان، صوت ابن الله (يو18: 37)، والسامعون يحيون (يو5: 25)، ويملكون معه في جدّة الحياة بالمسيح (رو5: 17).
إنّ مُلك المسيح مستعلن في نبوءة إشعياء؛ وتكون الرئاسة على كتفه، في الوقت الذي نرصد فيه أنّ كتفه يحمل الصليب؛ ليملك على خشبة (مز96: 10 س). إنّه نوع جديد من المُلك؛ الملك الإخلائي ..
لــك البركــة
لقد كان مشروع الخليقة الأوّل مشروع إطلاق بركة إلهيّة تُحَرِّك الوجود كلّه بتناغم وتناسق. مشروع ينطلق من حياة الله في الخليقة. حينما خلق الله آدم وحواء على صورته؛ باركهم (تك1: 28). وحينما التقى الله إبراهيم، أعلن له: أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً، وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ تَكْثِيرًا كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، وَيَرِثُ نَسْلُكَ بَابَ أَعْدَائِهِ. وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِي. (تك22: 17-18).
لهذا كانت البركة تنتقل عبر الأجيال؛ إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، والأسباط، ثم البركة الكهنوتيّة للشعب، كتعبير عن العودة لمشروع الله، الذي فيه ومنه تأتي البركات الحقيقية.
وفي ملء الزمان، أعلن الملاك عن فتاة الناصرة؛ مريم، كمباركة في النساء (لو1: 28)، أي أنّها ستكون أرضًا خصبًا لزرع بذار المشروع الإلهي؛ مُلك الله.
كما كان آخر مشهد للربّ يسوع في الجسد قبل الصعود هو إطلاق البركة؛ وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجًا إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. (لو 24: 51).
لقد كانت البركة إعلانًا أنّ مشروع الله لا يزال مستمرًا. مشروع الفيض والنماء والإثمار من خلال الاتحاد بالله، ومعرفة الله. يمكن هنا ربط البركة بالملوكيّة؛ إذ أنّ المُلك والبركة وجهان لإعلان سيادة الله على شعبه. حينما يُسْتَلَب المُلك، أو يخفق الملك في قيادة شعب الله بحسب نواميس يهوه، تضمحل البركة، كإعلان عن مفارقة الله، وإحالة وجهه عن مشروع ملوكيّة لا يرتكز على ملك الله. حينما يسبى الشعب لعدم معرفة الله؛ تَصِيرُ شُرَفَاؤُهُ رِجَالَ جُوعٍ، وَعَامَّتُهُ يَابِسِينَ مِنَ الْعَطَشِ. (إش5: 13). لا بركة!
ارتباط البركة بالملك واضحٌ في هتاف الجموع في دخول المسيح إلى أورشليم؛ مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ الآتِيَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي! (مر 11: 10). ستأتي البركة مع استعادة الملك باسم الربّ، لا بأسماء الناس. ستتحوّل المدينة إلى وادي البَركة (2أخ20: 26)، وسيدخل الشعب؛ أُورُشَلِيمَ بِالرَّبَابِ وَالْعِيدَانِ وَالأَبْوَاقِ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ (2أخ20: 28).
حينما نهتف مسبّحين لك البركة؛ فإنّنا نعلن انتمائنا لمشروع مُلك يهوه الأوّل؛ الذي تجدَّد بتجديد طبيعتنا في المسيح، ليملك يهوه على الكنيسة التي لها يسوع رأسًا، وملكًا مقتدرًا، عزيزًا، مجيدًا، إلى الأبد.
الراهب سارافيم البرموسي